مقالات اليوم
ايقاع الحرف
هل المعرفة مجرد منظور؟
د.ناصر الحجيلان
استكمالًا لزاوية سابقة بعنوان: «لماذا تختلف أخلاق الناس؟» التي طُرح فيها نقاش حول فكرة التشابه والاختلاف في أخلاق الناس، وعلاقة ذلك بالصراع بين الحضارات أو داخل الثقافة الواحدة؛ تُوضح زاوية اليوم كيف تنشأ رؤية العالم عند الفرد من منطلق أن أخلاق المرء ماهي إلا رؤية للعالم، وعلاقة المعرفة التي نكتسبها بتشكيل هذه الرؤية.
ويؤكد كثير من الباحثين بأن رؤية العالم لاتنشأ من العدم، فقد كتب الباحث الأمريكي "س. س. لويس" (C.S. Lewis) مقالة بعنوان: "التأمل في سقيفة"، وفيها يكشف لنا كيف نرى العالم بواسطة معرفة ما، ويعرض مثالًا للمرء حينما يقف في الظلمة وينظر إلى شعاع من ضوء الشمس الساطعة التي تخترق الظلمة من شقٍ في السقف يجد أن الشخص بهذا يتعرف على موقف واحد، أما الموقف الآخر المختلف تمامًا فهو أن يقف المرء في شعاع الضوء ويرى الظلام وما يحيط به. وعليه، فإن «النظر من داخل الشعاع والنظر إلى الشعاع تجربتان مختلفتان جداً». والواقع، أننا حينما نكون في سقيفة، فإنه لايمكننا معرفة الظلام أبدًا إلا من نقطة في الضوء، وفي المقابل لايمكننا التعرف على الضوء إلا من نقطة في الظلام. أي أن ما ندركه هو ما نتعرف عليه من داخل تجربة ما، وكأنه ليس هناك أرض محايدة.
ويشير "لويس" إلى أنه «يمكنك أن تخطو بعيدًا عن تجربة ما فقط عن طريق الانتقال إلى داخل تجربة أخرى.. لأن ما تراه وتسمعه يعتمد كثيرًا على الموقع الذي تقف فيه، وهو يعتمد أيضًا على أي نوع من الأفراد أنت».
إن استعارة السقيفة هذه وصفٌ مناسب للدور الذي يقوم به منظور رؤية العالم بوصفه تجربة داخلية ينظر من خلالها إلى الأشياء كلها، ويتم فهمها وفقًا لهذا المنظور. إن تأثير التجارب الداخلية على رؤيتنا للعالم قد لاتكون واضحة لنا بدرجة كافية، ولكنها مؤثرة بشكل كبير على فهمنا وأحكامنا. فلو أخذنا مثالا الشخص المصاب بألم في الظهر يمنعه من الحركة بحريّة، فإن رؤيته لهذا الجزء من الجسد تختلف عن رؤية شخص سليم، ويترتب على ذلك رؤيته لغيره من الأشخاص ونظرته إلى الحياة بشكل عام؛ والأمر نفسه مع الشخص الذي يعاني ظروفًا مادية صعبة؛ وهكذا، فإن ردود أفعالنا لايمكن عزلها عن تجاربنا في الحياة، حتى وإن بدت عفويّة.
وهناك من يرى أن خطابنا كله، سواء أكان أكاديميًا أم رسميًا أم شعبيًا، تصوغه مجموعة متنوعة من العوامل المؤثرة، وتغيِّر من شروطه، من هذه العوامل جنس الفرد والعرق والطبقة. بمعنى، أنه لا توجد تصورات ذهنية تحركنا غير متأثرة بهذه العوامل. ويؤكد الفيلسوف الكيميائي "مايكل بولاني" (Michael Polanyi) في كتابه "المعرفة الشخصية" (Personal Knowledge) القيمة الحديثة للموضوعية العلمية؛ فيجد أن «النموذج المعرفي الدقيق يزيّف نظرتنا كلها بعيدًا عن نطاق العلم»؛ حيث يرى الناسُ العالمَ من وجهة نظر موجودة في صميم كينونتهم، فيقول: «علينا نحن البشر أن نرى الكون من مركز متمكن داخل أنفسنا، وأن نتحدَّث عنه من خلال اللغة البشرية التي شكلتها شروط التواصل الإنساني. لذا، فإن أيّ محاولة صارمة للقضاء على وجهة نظرنا الإنسانية ونزعها عن تصوّرنا عن العالم لابد أن تؤدّي إلى العبثية».
إن المعرفة بالنسبة إلى "بولاني" كلها شخصية، ويجب ألا تغيب هذه الحقيقة عن البال عند الاهتمام بمسألة العلم لأنها تشكل عنصرًا من عناصر الحياة البشرية.
وفي هذا السياق، ألّف "توماس كوهن" (Thomas Kuhn) كتاباً أحدث ضجة كبيرة بعنوان "بنية الثورات العلمية" (The Structure of Scientific Revolutions)، قدّم له الأستاذ القدير الدكتور يحيى أبو الخير قراءة ممتعة في عمادة شؤون المكتبات بجامعة الملك سعود في أبريل الماضي، ذكر فيه أن العلم الوضعي كان غافلاً عن طابعه الحقيقي في توجهاته غير التاريخية، وفي نفيه الأبعاد الاجتماعية النفسية التي لا مهرب منها. وقد سلّط الكتاب الضوء على كيفية استشفاف المشروع الطبيعي العلمي في السياق وتحت سيادة نموذج نهج سائد يُحدِّد كل شيء تقريبًا مثل: اختيار المشاريع البحثية ومدى ملاءمة البيانات ومضمون الملاحظات وقبول الحلول، فضلاً عن القيم والمعايير وأساليب العلم نفسه.
والواقع، أن هذه النسخة الحديثة التي تتّسم بطابع إنساني وتاريخي لفلسفة العلم ليست نقية تمامًا، لكنها على الأقل أكثر صدقًا بوصفها وسيلة لعلماء يملكون توقعات عن الحياة وعن علومهم.
إن هذه الأفكار تتعارض مع أفكار الفيلسوف "رينيه ديكارت" الساعية للحصول على معرفة عن العالم نقيّة وحرّة وغير متأثرة بشيء. إن مجرد القول القديم: حافظ على الفكر خاليًا من الملوثات الذاتية حتى يتمكّن من الوصول إلى حقيقة الأشياء دون عوائق، يتضمن إشارة إلى استحالة التجريد الذاتي لأي موضوع، وصعوبة الحياد المعرفي. على أن العقل لايستطيع أن يعمل بشكل صحيح في غياب العاطفة؛ فقد ذكر عالم الأعصاب "أنطونيو داماسيو" (Antonio Damasio) أن غياب العاطفة والشعور عند المرء يؤدي إلى انهيار العقلانية. وعليه، فإن كلًا من العاطفة والعقل ضروريٌّ لحسن التفكير، واتخاذ القرار.
وشرح "داماسيو" كيفيّة مساهمة العواطف والمشاعر في العقل والسلوك الاجتماعي المتكيف، موضحًا أن هذه العواطف تعمل بمثابة استشعار مباشر عن حالات جسدنا، وأنها رابط بين الجسم والأنظمة التي تُوجّه بقاءه على قيد الحياة، وهي كذلك رابط بين الجسم والوعي.
ويمكن القول إن البشر مخلوقات يتوحّد فيها العقل والجسد ويتماسكان، فلايعمل العقل في فراغ، ولايمكنه أن يفعل ذلك، ويُشكّل التفكير دائمًا وظيفة الشخص كله..
ايقاع الحرف
هل المعرفة مجرد منظور؟
د.ناصر الحجيلان
استكمالًا لزاوية سابقة بعنوان: «لماذا تختلف أخلاق الناس؟» التي طُرح فيها نقاش حول فكرة التشابه والاختلاف في أخلاق الناس، وعلاقة ذلك بالصراع بين الحضارات أو داخل الثقافة الواحدة؛ تُوضح زاوية اليوم كيف تنشأ رؤية العالم عند الفرد من منطلق أن أخلاق المرء ماهي إلا رؤية للعالم، وعلاقة المعرفة التي نكتسبها بتشكيل هذه الرؤية.
ويؤكد كثير من الباحثين بأن رؤية العالم لاتنشأ من العدم، فقد كتب الباحث الأمريكي "س. س. لويس" (C.S. Lewis) مقالة بعنوان: "التأمل في سقيفة"، وفيها يكشف لنا كيف نرى العالم بواسطة معرفة ما، ويعرض مثالًا للمرء حينما يقف في الظلمة وينظر إلى شعاع من ضوء الشمس الساطعة التي تخترق الظلمة من شقٍ في السقف يجد أن الشخص بهذا يتعرف على موقف واحد، أما الموقف الآخر المختلف تمامًا فهو أن يقف المرء في شعاع الضوء ويرى الظلام وما يحيط به. وعليه، فإن «النظر من داخل الشعاع والنظر إلى الشعاع تجربتان مختلفتان جداً». والواقع، أننا حينما نكون في سقيفة، فإنه لايمكننا معرفة الظلام أبدًا إلا من نقطة في الضوء، وفي المقابل لايمكننا التعرف على الضوء إلا من نقطة في الظلام. أي أن ما ندركه هو ما نتعرف عليه من داخل تجربة ما، وكأنه ليس هناك أرض محايدة.
ويشير "لويس" إلى أنه «يمكنك أن تخطو بعيدًا عن تجربة ما فقط عن طريق الانتقال إلى داخل تجربة أخرى.. لأن ما تراه وتسمعه يعتمد كثيرًا على الموقع الذي تقف فيه، وهو يعتمد أيضًا على أي نوع من الأفراد أنت».
إن استعارة السقيفة هذه وصفٌ مناسب للدور الذي يقوم به منظور رؤية العالم بوصفه تجربة داخلية ينظر من خلالها إلى الأشياء كلها، ويتم فهمها وفقًا لهذا المنظور. إن تأثير التجارب الداخلية على رؤيتنا للعالم قد لاتكون واضحة لنا بدرجة كافية، ولكنها مؤثرة بشكل كبير على فهمنا وأحكامنا. فلو أخذنا مثالا الشخص المصاب بألم في الظهر يمنعه من الحركة بحريّة، فإن رؤيته لهذا الجزء من الجسد تختلف عن رؤية شخص سليم، ويترتب على ذلك رؤيته لغيره من الأشخاص ونظرته إلى الحياة بشكل عام؛ والأمر نفسه مع الشخص الذي يعاني ظروفًا مادية صعبة؛ وهكذا، فإن ردود أفعالنا لايمكن عزلها عن تجاربنا في الحياة، حتى وإن بدت عفويّة.
وهناك من يرى أن خطابنا كله، سواء أكان أكاديميًا أم رسميًا أم شعبيًا، تصوغه مجموعة متنوعة من العوامل المؤثرة، وتغيِّر من شروطه، من هذه العوامل جنس الفرد والعرق والطبقة. بمعنى، أنه لا توجد تصورات ذهنية تحركنا غير متأثرة بهذه العوامل. ويؤكد الفيلسوف الكيميائي "مايكل بولاني" (Michael Polanyi) في كتابه "المعرفة الشخصية" (Personal Knowledge) القيمة الحديثة للموضوعية العلمية؛ فيجد أن «النموذج المعرفي الدقيق يزيّف نظرتنا كلها بعيدًا عن نطاق العلم»؛ حيث يرى الناسُ العالمَ من وجهة نظر موجودة في صميم كينونتهم، فيقول: «علينا نحن البشر أن نرى الكون من مركز متمكن داخل أنفسنا، وأن نتحدَّث عنه من خلال اللغة البشرية التي شكلتها شروط التواصل الإنساني. لذا، فإن أيّ محاولة صارمة للقضاء على وجهة نظرنا الإنسانية ونزعها عن تصوّرنا عن العالم لابد أن تؤدّي إلى العبثية».
إن المعرفة بالنسبة إلى "بولاني" كلها شخصية، ويجب ألا تغيب هذه الحقيقة عن البال عند الاهتمام بمسألة العلم لأنها تشكل عنصرًا من عناصر الحياة البشرية.
وفي هذا السياق، ألّف "توماس كوهن" (Thomas Kuhn) كتاباً أحدث ضجة كبيرة بعنوان "بنية الثورات العلمية" (The Structure of Scientific Revolutions)، قدّم له الأستاذ القدير الدكتور يحيى أبو الخير قراءة ممتعة في عمادة شؤون المكتبات بجامعة الملك سعود في أبريل الماضي، ذكر فيه أن العلم الوضعي كان غافلاً عن طابعه الحقيقي في توجهاته غير التاريخية، وفي نفيه الأبعاد الاجتماعية النفسية التي لا مهرب منها. وقد سلّط الكتاب الضوء على كيفية استشفاف المشروع الطبيعي العلمي في السياق وتحت سيادة نموذج نهج سائد يُحدِّد كل شيء تقريبًا مثل: اختيار المشاريع البحثية ومدى ملاءمة البيانات ومضمون الملاحظات وقبول الحلول، فضلاً عن القيم والمعايير وأساليب العلم نفسه.
والواقع، أن هذه النسخة الحديثة التي تتّسم بطابع إنساني وتاريخي لفلسفة العلم ليست نقية تمامًا، لكنها على الأقل أكثر صدقًا بوصفها وسيلة لعلماء يملكون توقعات عن الحياة وعن علومهم.
إن هذه الأفكار تتعارض مع أفكار الفيلسوف "رينيه ديكارت" الساعية للحصول على معرفة عن العالم نقيّة وحرّة وغير متأثرة بشيء. إن مجرد القول القديم: حافظ على الفكر خاليًا من الملوثات الذاتية حتى يتمكّن من الوصول إلى حقيقة الأشياء دون عوائق، يتضمن إشارة إلى استحالة التجريد الذاتي لأي موضوع، وصعوبة الحياد المعرفي. على أن العقل لايستطيع أن يعمل بشكل صحيح في غياب العاطفة؛ فقد ذكر عالم الأعصاب "أنطونيو داماسيو" (Antonio Damasio) أن غياب العاطفة والشعور عند المرء يؤدي إلى انهيار العقلانية. وعليه، فإن كلًا من العاطفة والعقل ضروريٌّ لحسن التفكير، واتخاذ القرار.
وشرح "داماسيو" كيفيّة مساهمة العواطف والمشاعر في العقل والسلوك الاجتماعي المتكيف، موضحًا أن هذه العواطف تعمل بمثابة استشعار مباشر عن حالات جسدنا، وأنها رابط بين الجسم والأنظمة التي تُوجّه بقاءه على قيد الحياة، وهي كذلك رابط بين الجسم والوعي.
ويمكن القول إن البشر مخلوقات يتوحّد فيها العقل والجسد ويتماسكان، فلايعمل العقل في فراغ، ولايمكنه أن يفعل ذلك، ويُشكّل التفكير دائمًا وظيفة الشخص كله..