كان بينهم قاض سابق
محمد بن سعود الجذلاني*
كان لي عدة مقالات سابقة استنكرتُ فيها التناول الإعلامي غير المنضبط لبعض الأحداث والوقائع ذات الصلة بالقضاء ، بطريقة تسيء إلى سمعة القضاء أو تشكك في نزاهته، أو تضعف هيبته في النفوس ، وتكرر تأكيدي على هذه المسألة أكثر من مرة بتكرر الأحداث التي تدعو إلى ذلك.
إلا أنه في هذا الصدد رأيتُ أن من واجبي تجاه القارئ ، ومن أمانة النصح والقلم أن أنظر إلى الجانب الآخر في هذه الوقائع والأحداث المتكررة، وأن أعلّق عليها بما أعتقد أنه مطلوب لحفظ حقوق المتقاضين، حتى لا يُفهم الحديثُ المطنب عن حفظ هيبة القضاء بأنه تنزيه واعتقاد عصمة في القضاة ، فهذا غير وارد ولا مقصود لي إنما لكل مقام مقال .
إن صدور بعض المخالفات التي تصل أحياناً لدرجة جسيمة من بعض القضاة أمر ليس بالجديد بل هو قديم ولازم من لوازم كونهم بشراً يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ، إنما الجديد في هذه المسألة هو التغطية الإعلامية التي لايمكن لأحد أن يصادرها أو أن يُبقي الساحة القضائية منطقة َ ظِلّ لا يصل إليها ضوء الإعلام ، فهذا تنكر لدور الإعلام كونه لسان المجتمع ِ الذي ينطق به، وعينه التي يرى بها . إنما المطلوب هو الانضباط والمسؤولية والوعي ورعاية المصلحة في تغطية مثل هذه الأخبار وتناولها.
من خلال الأحداث الماضية التي شهدتها ساحة القضاء السعودي وسمع بها وعايشها أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام ، كلها لقضاة كشفت الرقابة عن تجاوزاتهم الجسيمة، وارتكابهم لبعض صور الإجرام ما أدى لمساءلتهم ومحاكمتهم ونشر تفاصيل جرائمهم
إذاً فليس جديداً أن يصدر عن أحد منسوبي القضاء خرق جسيم لقواعد العدالة، أو تجاوز صارخ لحدودها ، عن عمد أحياناً وعن جهل غير مغتفر وإهمال غير مبرر أحياناً أخرى.
ومن خلال الأحداث الماضية التي شهدتها ساحة القضاء السعودي وسمع بها وعايشها أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام ، كلها لقضاة كشفت الرقابة عن تجاوزاتهم الجسيمة، وارتكابهم لبعض صور الإجرام ما أدى لمساءلتهم ومحاكمتهم ونشر تفاصيل جرائمهم ؛ بعض ُ هذه الأحداث يمكن التحدث بها لأنها نشرت في وسائل الإعلام وثبتت أحداثها ، وبعضها بقيت حديث مجالس أو محل تداول عبر مواقع ومنتديات الإنترنت وأحياناً بالصوت والصورة . وبغضّ النظر عما ثبت من هذه الجرائم مما لم يثبت لأنه ليس كل ما يقال صحيحاً كما أنه ليس كل ما يقال أيضاً غير صحيح.
تأتي هذه الأخبار والأحداث التي كثر ترددها لتؤكد أمراً لايحتاج إلى تأكيد فهو معلوم كما أشرتُ من كون القضاة بشراً وليسوا ملائكة ، فهم إذاً عرضة للانحراف عن الجادة، أو الوقوع فريسة الهوى والشيطان ، فضلاً عن أنه قد يكون بينهم من ليس أهلاً للقضاء . ولولا ذلك لما كان نظام القضاء يعقد فصلاً كاملاً لتنظيم (تأديب القضاة) ، وينص على أن أحد أسباب انتهاء خدمة القاضي حصوله في تقرير الكفاية على تقدير أقل من المتوسط ثلاث مرات متتالية.
إذاً فنحن متفقون على هذا المبدأ ولا أظن تقريره أو تأكيده يحمل أي إساءة للقضاء . إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ويحتاج إلى إجابة شافية :
ما مصير القضايا والأحكام التي تصدى لها ذلك القاضي الذي ثبت أنه انحرف عن جادة الصواب، وارتكب جناية أو حتى ثبت أنه ينتمي لتنظيم سري ضال كما طالعتنا أخبار الصحف في محاكمة خلية التنظيم السري التي تدور الآن أن بينهم (قاضياً سابقا) أو القاضيين اللذين سبق أن تناولت بعض الصحف أخبارهما ونقلت أنه صدر بحقهما حكم وصف ما قاما به " بالخيانة والإفساد وأوصى بعدم شمولهما بالعفو ".
إن مثل هذه الأحداث لن تؤثر في موقفي السابق اللاحق المستمر في أن حفظ هيبة القضاء وصيانة مكانته أمر لايمكن المساومة عليه، ولا التهاون فيه.
كما أن مثل هذه الأحداث لا تحملني إلى المناداة بسنّ نظام يكفل للمتضررين مخاصمة القضاة الذين يثبت تجاوزهم الجسيم لقواعد العدالة بارتكاب خطأ مهني جسيم، أو غش أو تدليس تعمداً أو جهلاً ، كما هو موجود في أنظمة كثير من الدول ، وسبب عدم مطالبتي بذلك ليس تقديس القضاة ولا إهمال حقوق المتضررين ، إنما لأن التجارب في الدول التي أقرّت مثل هذه الأنظمة أثبتت أن نتائجها لم تكن كما يتصوره كثير من المطالبين بها.
إلا أنني تبعاً لذلك أقول : إنه لا أقل ّ من تفعيل الرقابة على أعمال القضاة وأحكامهم داخل منظومة السلطة القضائية لا خارجها ؛ تفعيل الرقابة على أعمالهم وتصرفاتهم بالتفتيش القضائي ، وتفعيل الرقابة على أحكامهم وأقضيتهم عبر محاكم الاستئناف والمحكمة العليا.
ينبغي أن نزيد من الاهتمام والعناية بأصوات الناس وشكاواهم وتظلماتهم ، خاصة ً إن كانت صادرة ً من المحامين الذين غالباً لا يتجرأ الواحد منهم على شكوى القاضي إلا إذا بلغ السيل الزبى وثقُلَ الظلمُ على الصابر ، لأن المحامي أولاً أعرف من غيره من سائر المتقاضين بالأصول الشرعية والنظامية ، ولأنه ثانياً لا يحب أن يسيء لعلاقته بالقضاة عبر مخاصمة أحدهم.
إن الاستمرار في التعاطي الضعيف مع هذه الشكاوى والتظلمات التي بدأنا نسمعها ونراها في كل مناسبة وعلى كل منبر ، ما بين البرامج الجماهيرية التي تبثها القنوات ووسائل الإعلام المختلفة ، إلى التعليقات التي نراها على الأخبار والمقالات ذات الصلة بالمحاكم والقضاء ، والتي تنضح كلها بالضجر والتشكي والنظرة القاتمة لوضع القضاء ، والتي في أحسن أحوالها تشتكي من التأخير غير المقبول ، ولا المبرر والتعطيل لنظر بعض القضايا ؛ أقول :إن الاستمرار في إهمال مثل هذه التظلمات ليس في مصلحة الوطن ولا المواطن ؛ مصلحة الوطن في أمنه واستقراره وشعور أفراده بالأمان والكرامة والعزة وتقوية حبهم وانتمائهم لوطنهم.
وقبل الختام أؤكد أن كل ما سبق لايعني التشكيك في صلاح القضاء السعودي ونزاهته ، ولا نكران ما يتحلى به السواد الأعظم من أصحاب الفضيلة القضاة لدينا من علم ونزاهة وصلاح وكفاية ، وأنه لايمكن قراءة مقالي هذا بمعزل عن مقالاتي السابقة الكثيرة في الإشادة بقضائنا وقضاتنا الأفاضل ، إلا أنه أيضاً لا يمكن الوصول إلى تقديسهم وإنكار وجود الخلل أو التجاوز من بعضهم ، فلايمكن أن يقال للقاضي : إفعل ولا حرج ، فهو في نهاية المطاف ذو ولاية لها مرجعيتها من أحكام الشريعة والنظام ، وملزم كسائر موظفي الدولة بنظام ( الخدمة المدنية) إضافة لسائر أنظمة القضاء ..
وإذا كان خادم الحرمين الشريفين - أيده الله ومتعه بالعافية وأمده بالتوفيق - صرّح في مناسبة ٍ سابقة أنه خادم لهذا الشعب ، ومثله سمو ولي العهد، والنائب الثاني وزير الداخلية في أكثر من مناسبة ٍ يؤكدان أن الوزير هو أجير لدى المواطن ، فلا يستنكف القضاة أن يكونوا ضمن هذه المنظومة التي تسعى لخدمة الناس وتلبية متطلباتهم المعيشية ، وبهذه الرؤية يكون التوازن في الأداء ، وبها تؤدى الأعمال بما يرضي الله عز وجل، ويعين على براءة الذمة..
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه..
*القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً
محمد بن سعود الجذلاني*
كان لي عدة مقالات سابقة استنكرتُ فيها التناول الإعلامي غير المنضبط لبعض الأحداث والوقائع ذات الصلة بالقضاء ، بطريقة تسيء إلى سمعة القضاء أو تشكك في نزاهته، أو تضعف هيبته في النفوس ، وتكرر تأكيدي على هذه المسألة أكثر من مرة بتكرر الأحداث التي تدعو إلى ذلك.
إلا أنه في هذا الصدد رأيتُ أن من واجبي تجاه القارئ ، ومن أمانة النصح والقلم أن أنظر إلى الجانب الآخر في هذه الوقائع والأحداث المتكررة، وأن أعلّق عليها بما أعتقد أنه مطلوب لحفظ حقوق المتقاضين، حتى لا يُفهم الحديثُ المطنب عن حفظ هيبة القضاء بأنه تنزيه واعتقاد عصمة في القضاة ، فهذا غير وارد ولا مقصود لي إنما لكل مقام مقال .
إن صدور بعض المخالفات التي تصل أحياناً لدرجة جسيمة من بعض القضاة أمر ليس بالجديد بل هو قديم ولازم من لوازم كونهم بشراً يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ، إنما الجديد في هذه المسألة هو التغطية الإعلامية التي لايمكن لأحد أن يصادرها أو أن يُبقي الساحة القضائية منطقة َ ظِلّ لا يصل إليها ضوء الإعلام ، فهذا تنكر لدور الإعلام كونه لسان المجتمع ِ الذي ينطق به، وعينه التي يرى بها . إنما المطلوب هو الانضباط والمسؤولية والوعي ورعاية المصلحة في تغطية مثل هذه الأخبار وتناولها.
من خلال الأحداث الماضية التي شهدتها ساحة القضاء السعودي وسمع بها وعايشها أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام ، كلها لقضاة كشفت الرقابة عن تجاوزاتهم الجسيمة، وارتكابهم لبعض صور الإجرام ما أدى لمساءلتهم ومحاكمتهم ونشر تفاصيل جرائمهم
إذاً فليس جديداً أن يصدر عن أحد منسوبي القضاء خرق جسيم لقواعد العدالة، أو تجاوز صارخ لحدودها ، عن عمد أحياناً وعن جهل غير مغتفر وإهمال غير مبرر أحياناً أخرى.
ومن خلال الأحداث الماضية التي شهدتها ساحة القضاء السعودي وسمع بها وعايشها أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام ، كلها لقضاة كشفت الرقابة عن تجاوزاتهم الجسيمة، وارتكابهم لبعض صور الإجرام ما أدى لمساءلتهم ومحاكمتهم ونشر تفاصيل جرائمهم ؛ بعض ُ هذه الأحداث يمكن التحدث بها لأنها نشرت في وسائل الإعلام وثبتت أحداثها ، وبعضها بقيت حديث مجالس أو محل تداول عبر مواقع ومنتديات الإنترنت وأحياناً بالصوت والصورة . وبغضّ النظر عما ثبت من هذه الجرائم مما لم يثبت لأنه ليس كل ما يقال صحيحاً كما أنه ليس كل ما يقال أيضاً غير صحيح.
تأتي هذه الأخبار والأحداث التي كثر ترددها لتؤكد أمراً لايحتاج إلى تأكيد فهو معلوم كما أشرتُ من كون القضاة بشراً وليسوا ملائكة ، فهم إذاً عرضة للانحراف عن الجادة، أو الوقوع فريسة الهوى والشيطان ، فضلاً عن أنه قد يكون بينهم من ليس أهلاً للقضاء . ولولا ذلك لما كان نظام القضاء يعقد فصلاً كاملاً لتنظيم (تأديب القضاة) ، وينص على أن أحد أسباب انتهاء خدمة القاضي حصوله في تقرير الكفاية على تقدير أقل من المتوسط ثلاث مرات متتالية.
إذاً فنحن متفقون على هذا المبدأ ولا أظن تقريره أو تأكيده يحمل أي إساءة للقضاء . إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ويحتاج إلى إجابة شافية :
ما مصير القضايا والأحكام التي تصدى لها ذلك القاضي الذي ثبت أنه انحرف عن جادة الصواب، وارتكب جناية أو حتى ثبت أنه ينتمي لتنظيم سري ضال كما طالعتنا أخبار الصحف في محاكمة خلية التنظيم السري التي تدور الآن أن بينهم (قاضياً سابقا) أو القاضيين اللذين سبق أن تناولت بعض الصحف أخبارهما ونقلت أنه صدر بحقهما حكم وصف ما قاما به " بالخيانة والإفساد وأوصى بعدم شمولهما بالعفو ".
إن مثل هذه الأحداث لن تؤثر في موقفي السابق اللاحق المستمر في أن حفظ هيبة القضاء وصيانة مكانته أمر لايمكن المساومة عليه، ولا التهاون فيه.
كما أن مثل هذه الأحداث لا تحملني إلى المناداة بسنّ نظام يكفل للمتضررين مخاصمة القضاة الذين يثبت تجاوزهم الجسيم لقواعد العدالة بارتكاب خطأ مهني جسيم، أو غش أو تدليس تعمداً أو جهلاً ، كما هو موجود في أنظمة كثير من الدول ، وسبب عدم مطالبتي بذلك ليس تقديس القضاة ولا إهمال حقوق المتضررين ، إنما لأن التجارب في الدول التي أقرّت مثل هذه الأنظمة أثبتت أن نتائجها لم تكن كما يتصوره كثير من المطالبين بها.
إلا أنني تبعاً لذلك أقول : إنه لا أقل ّ من تفعيل الرقابة على أعمال القضاة وأحكامهم داخل منظومة السلطة القضائية لا خارجها ؛ تفعيل الرقابة على أعمالهم وتصرفاتهم بالتفتيش القضائي ، وتفعيل الرقابة على أحكامهم وأقضيتهم عبر محاكم الاستئناف والمحكمة العليا.
ينبغي أن نزيد من الاهتمام والعناية بأصوات الناس وشكاواهم وتظلماتهم ، خاصة ً إن كانت صادرة ً من المحامين الذين غالباً لا يتجرأ الواحد منهم على شكوى القاضي إلا إذا بلغ السيل الزبى وثقُلَ الظلمُ على الصابر ، لأن المحامي أولاً أعرف من غيره من سائر المتقاضين بالأصول الشرعية والنظامية ، ولأنه ثانياً لا يحب أن يسيء لعلاقته بالقضاة عبر مخاصمة أحدهم.
إن الاستمرار في التعاطي الضعيف مع هذه الشكاوى والتظلمات التي بدأنا نسمعها ونراها في كل مناسبة وعلى كل منبر ، ما بين البرامج الجماهيرية التي تبثها القنوات ووسائل الإعلام المختلفة ، إلى التعليقات التي نراها على الأخبار والمقالات ذات الصلة بالمحاكم والقضاء ، والتي تنضح كلها بالضجر والتشكي والنظرة القاتمة لوضع القضاء ، والتي في أحسن أحوالها تشتكي من التأخير غير المقبول ، ولا المبرر والتعطيل لنظر بعض القضايا ؛ أقول :إن الاستمرار في إهمال مثل هذه التظلمات ليس في مصلحة الوطن ولا المواطن ؛ مصلحة الوطن في أمنه واستقراره وشعور أفراده بالأمان والكرامة والعزة وتقوية حبهم وانتمائهم لوطنهم.
وقبل الختام أؤكد أن كل ما سبق لايعني التشكيك في صلاح القضاء السعودي ونزاهته ، ولا نكران ما يتحلى به السواد الأعظم من أصحاب الفضيلة القضاة لدينا من علم ونزاهة وصلاح وكفاية ، وأنه لايمكن قراءة مقالي هذا بمعزل عن مقالاتي السابقة الكثيرة في الإشادة بقضائنا وقضاتنا الأفاضل ، إلا أنه أيضاً لا يمكن الوصول إلى تقديسهم وإنكار وجود الخلل أو التجاوز من بعضهم ، فلايمكن أن يقال للقاضي : إفعل ولا حرج ، فهو في نهاية المطاف ذو ولاية لها مرجعيتها من أحكام الشريعة والنظام ، وملزم كسائر موظفي الدولة بنظام ( الخدمة المدنية) إضافة لسائر أنظمة القضاء ..
وإذا كان خادم الحرمين الشريفين - أيده الله ومتعه بالعافية وأمده بالتوفيق - صرّح في مناسبة ٍ سابقة أنه خادم لهذا الشعب ، ومثله سمو ولي العهد، والنائب الثاني وزير الداخلية في أكثر من مناسبة ٍ يؤكدان أن الوزير هو أجير لدى المواطن ، فلا يستنكف القضاة أن يكونوا ضمن هذه المنظومة التي تسعى لخدمة الناس وتلبية متطلباتهم المعيشية ، وبهذه الرؤية يكون التوازن في الأداء ، وبها تؤدى الأعمال بما يرضي الله عز وجل، ويعين على براءة الذمة..
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه..
*القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً